حكاية اسطورة الشهداء السبعة

حكاية اسطورة الشهداء السبعة 

--------------------------------------------------------------------------------

منذ ما يقرب من أربعمائة وخمسين عاما لم تنطفئ سبع شموع علي مدفن جماعي لسبعة شهداء، ستة منهم أئمة فقهاء، والسابع نائب الأمير في ميناء الشحر في حضرموت.
وقد بدأت الأحداث في صباح يوم الخميس التاسع من ربيع الثاني الموافق 25 فبراير 1523م وذلك حين أغارت بعض سفن الأسطول البرتغالي علي ميناء الشحر في حضرموت وأحرقت خمس سفن كانت راسية فيه، ودمرت كل ما كان علي أرصفة الميناء من بضائع وشحنات.. وحين وصلت تلك القوة البرتغالية لم يكن السلطان بدر أمين البلاد موجودا وكان في جولة يتفقد فيها وادي حضرموت، واصطحب معه في الرحلة حامية ميناء الشحر، ولذا تمكن المغيرون من التدمير والتخريب.
ونزل من الأسطول البرتغالي ثلاثة من البحارة قالوا إنهم يحملون رسالة من القائد الأميرال لويز دي منزيس إلي السلطان بدر أبو طويرق لابد أن يسلمها بيده، وطلب الأمير بالنيابة منهم تسليم الرسالة لكي يبلغها بدوره إلي السلطان الغائب في جولة داخل البلاد، ولكنهم أصروا علي مقابلة السلطان أو القائم مقامه لتسليمه الرسالة بأنفسهم، وما كان من أمير البحر إلا أن صحبهم إلي نائبه الأمير مطران الذي تسلم الرسالة، وكانت تقول: إن تاجرا برتغاليا اسمه 'الفونس دي فيجا' مات في ميناء الشحر منذ خمسة أشهر، وأن السلطان بدر استولي علي أمواله وثروته الكاملة، ولذا فإن الاميرال البرتغالي يطلب رد كل هذه الأموال إليه فورا وبدون تأخير.
ورد الأمير مطران علي قائد الأسطول المغير أن أحدا لا يعلم شيئا عن هذا التاجر أو وجوده في الشحر، ولما كان السلطان بدر في زيارة قصيرة لوادي حضرموت ويتوقع عودته في غضون أيام قلائل فإن الأمر سوف يرفع إليه ويعطي هذا الأمر ما يستحقه من العناية والاهتمام.
ولكن في عصر نفس اليوم عاد البحارة برسالة أخري إلي الأمير مطران جاء فيها: أن الاميرال يطلب ممتلكات البرتغالي المتوفي علي الفور، وأنه سوف ينزل إلي الميناء ليأخذها بالقوة إذا لم يحضرها له الأمير مطران بنفسه.
وأدرك الأمير ما يجول بخاطر القائد وأنه عازم بلا شك علي الغارة علي الشحر.
ودعا الأمير أهل الحل والعقد في المدينة واطلعهم علي رسالة القائد البرتغالي وأجمعوا علي أنه يضمر شرا مستطيرا، وأنه لابد من ترحيل النساء والأطفال وما يسهل نقله من ممتلكات وأموال، وأن يعلن الخطر للأهلين ليستعدوا لأي نداء يصدره إذا ما بدأ الهجوم.
وعقد الأمير مطران اجتماعا خاصا مع ستة من الفقهاء والأئمة استدعاهم ليشحذوا الهمم ويضرموا الحماس وليعدوا الناس للتضحية والفداء، وكان أهل حضرموت يجمعون علي فضلهم وعلمهم وعلو قدرهم وكانوا:
-->الفقيه يعقوب بن صالح الحربضي.
<!--[ الفقيه أحمد بن عبدالله بلحاج يافضل.
<!--->الفقيه فضل بن رضوان يافضل.
<!--->الشيخ سالم بن صالح باعوين.
الشيخ حسن بن عبدالله العيداروس.
<!--[ الشيخ أحمد بن رضوان يافضل.

وتم الاتفاق في الاجتماع علي التعبئة وتكوين قيادات من أهل الحارات وفي الأقسام الرئيسية من المدينة ودعوة الأهالي قاطبة للدفاع عن وطنهم وأعراضهم وأموالهم مع التنبيه علي الجميع بعدم الاعتداء علي أفراد الجاليات الأجنبية أو ممتلكاتهم قط. ومضي الليل في استعدادات عارمة ودوريات في الشوارع وحراسات ليلية، وجمع أهل الحارات السيوف والرماح والحصي والحجارة في مناطق رئيسية من أقسامهم، وفي الهزيع الأخير من الليل طاف الأمير مطران علي أقسام البلد وشاهد ما يقوم به الأهالي من استعداد، وما تضطرم به نفوسهم من حماس، وأمر بتعزيز منطقة القرية باعتبارها الأقرب من الميناء وتوزع الأئمة والفقهاء علي الأحياء الرئيسية حاملين السلاح والقرآن وتدفقت جموع كثيرة من قبائل آل كثير وآل تريم تأييدا لأهالي الشحر.
ومع بزوغ فجر يوم الجمعة العاشر من شهر ربيع الثاني سنة 929 هجرية الموافق 1523 ميلادية نزل الجنود البرتغاليون في زوارقهم الصغيرة في دفعات إلي ساحل الشحر وقدر عددهم بأربعمائة '400' مقاتل مسلحين بالبنادق النارية وحاملين معهم معدات الحريق وكميات من البارود والنفط وكان البعض يحمل سلالم خشبية ذات درجات سلكية.
وأول ما فعل المعتدون أنهم أضرموا النار في مستودعات الأخشاب واحواض بناء السفن الممتدة علي الساحل ثم توقفوا في أزقة حارة القرية وبدأوا يطلقون النار علي كل من يصادفونه من الأهالي، وما أن سرت أنباء نزول المعتدين في المدينة حتي هرع الرجال كل إلي جماعته بسيوفهم ورماحهم وفئوسهم وعصيهم وخناجرهم بل وبالأحجار في أيديهم وواجهوا العدو مواجهة عارمة رغم عدم التكافؤ في السلاح ودبت روح الاستماتة والفداء في صفوف كل المدافعين عن المدينة، وكان كل فرد يشعر بأنه مهدد في روحه وماله وعرضه وشرفه وشرف وطنه وسلامته.
وتفرق الغزاة في جماعات صغيرة انتشرت في المدينة واقتحموا المنطقة التجارية وراحوا يحطمون أبواب الحوانيت المغلقة وينهبون ما فيها وتسللوا إلي الأحياء الفقيرة وفتكوا بمن فيها من عجائز رجالا ونساء، ولكن لم تلبث أن دارت المعركة الدامية في ساحة القبان المشهورة سقط فيها ثلاثون برتغاليا واستشهد ثمانون من أهل الشحر، كان من بينهم سبعة من أبناء الجالية الهندية الذين اشتركوا في المعركة إلي جانب أهل الشحر.
وحاول البرتغاليون احراق مسجد المحضار بأن كدسوا في المسجد كميات من أعواد الذرة الجافة وصبوا القار عليها واشعلوا النار، بيد أن النار انحصرت في كوم أعواد الذرة ولم تتعداه ثم انطفأت.
وفي خضم هذا الأتون الملتهب سقط العشرات من أبناء الشحر بين قتيل وجريح، وكان الأمير مطران وصحبه الستة الأئمة علي رأس الكتل البشرية الملتحمة مع البرتغاليين المعتدين وكان أول الشهداء الفقيه العلامة يعقوب الحربضي في قلب ميدان المعركة.
ثم استشهد الشيخ فضل بن رشوان يافضل في ساحة السوق ثم الشيخ أحمد بن عبدالله بلحاج بالقرب من مدرسة والده ودفاعا عنها.
وساد ظلام كثيف من الدخان والنيران التي التهمت ما بقي من مستودعات الأخشاب وحظائر السفن ومعاصر الزيوت والأبنية والأكواخ المحترقة.
وفي منتصف النهار انسحب البرتغاليون حاملين معهم قتلاهم وجرحاهم الذين تضاعف عددهم، وباتت الشحر ليلة حزينة تضمد جراحها ولكن تضاعف استعدادها وجمعت صفوفها من جديد.
وفي فجر يوم السبت التالي عاود البرتغاليون الهجوم علي المدينة وكانوا أكثر تصميما علي الانتقام بعد أن قïتل وجïرح منهم عدد ليس بالهين وذلك أمر لم يكونوا يتوقعونه.
وانصب الهجوم علي أفخم وأغني أقسام المدينة والذي كان يسكنه كبار التجار والحكام وأضرموا النار في العمارات وكانوا يقذفون بالنفط والقنابر البارودية الملتهبة علي أبواب المنازل ويطلقون النار علي النوافذ وتصدت لهم فرق المقاومة بقيادة الشيخ أحمد بن رضوان يافضل وقتل من المعتدين والمدافعين خلق كثير، وكان البرتغاليون يلقون بالقتلي والجرحي في آبار المساجد، وأحرق أهل الشحر بالمثل عددا من البرتغاليين الجرحي والقتلي وطاش الصواب لدي الطرفين وكان بالناس مثل الجنون، واستشهد في هذا اليوم الشيخ أحمد بن رضوان يافضل بعيار ناري وقد مثل البرتغاليون بجثته تشفيا وانتقاما.
وعاد البرتغاليون فجر يوم الأحد 'الثالث' وفي هذه الهجمة حاولوا احراق مسجد الجامع وتمكنوا من اضرام النار في المدارس الملحقة به، وصبوا النفط في سبيل المياه القريب من الجامع وما أن تقدموا إلي السوق حتي حاصرتهم الفرقة التي يتزعمها الشيخ سالم بن صالح باعوين المهري في سوق التمر وقتلتهم جميعا، وكان عددهم أربعين وقتل في هذه المعركة عدد كبير من أهل الشحر بينهم عدد من الصوماليين الذين اشتركوا في الدفاع عن المدينة واستشهد الشيخ سالم باعوين بضربة سيف سلخت جانبه الأيسر.
واتجهت فرقة من البرتغاليين صوب ديوان الحكم لإحراقه بمن فيه ودارت معركة ضروس أشد المعارك ضراوة، وقد تزعم المقاومة الأمير مطران نفسه واصابته رصاصة من بندقية برتغالية استقرت في جبهته فخرٌ صريعا.
وأدرك البرتغاليين اليأس وقرروا الانسحاب تاركين معظم قتلاهم في ساحة السوق وأحرقهم أهل الشحر وهم يصيحون أمام الحطب الملتهب: إلي سقر إلي سقر إلي سقر.
ورحلت عن الشحر السفن التي جاءت لتحتل وتغنم وفي ظهر اليوم نفسه وفد الأمير عطيف بن علي بن دحدح إلي مدينة الشحر علي رأس قوة كبيرة أعادت الأمن والنظام وراح الأهالي بمعونة جيش عطيفة يطفئون الحرائق ويجمعون الجثث من الشوارع ومن تحت الأنقاض واعتني بالجرحي بقدر ما كانت تسمح به الأحوال، وكذلك ألقي القبض علي العابثين وزج بهم في السجن واستعيد جانب من المنهوبات وزعت فيما بعد علي من عرف من أصحابها.
وكانت ذروة البلاء أن هبت في عصر ذلك اليوم العصيب عاصفة رملية زادت الحرائق اشتعالا وفي المساء هطلت الأمطار بغزارة طيلة الليل، وكانت البنايات المحترقة تتهاوي تحت وطأة الريح والماء المنهمر من السماء مما أعاق جمع الجثث ونقل الجرحي.
وأشرقت الشمس في اليوم الرابع .. وخرجت الجموع حاشدة تحتفل بالنصر وانسحاب البرتغاليين خاسرين، وتقرر أن تدفن جثث الشهداء السبعة وهم الأئمة الستة ومعهم الأمير مطران في مقبرة واحدة تضاء بالشموع وتزين بالورود، ووفق وصيته تقرر دفن سابع الأئمة الشيخ أحمد بن عبدالله بلحاج يافضل في قريته تريم وذلك تحت اصرار أهالي بلدته علي أن يدفن بجوار قبر ابنه وعليه شاهد باسمه وتحولت الشحر التي هزمت الغزاة إلي قصائد وملاحم يتغني بها الشعراء والمنشدون في كل أرجاء حضرموت، ولم يفكر البرتغاليون بعدها في العودة أو احتلال أرض عربية

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حصن بن عياش من أقدم القصور التاريخية في الشحر

الحب يقع قتيلاً بين إمرأة عنيده ورجل ذو كبرياء!